باحث سنغالي يقترح إعادة النظر في العلاقات السكانية لبناء “مجتمع الأحياء”

“أزمة تواصلية عميقة” يعيشها الإنسان حاليا، يرصدها الباحث فالوين صار، ويرصد انعكاسها على “العلاقة التي نقيمها مع إخواننا من البشر، ومع محيطنا والأحياء بصفة عامة”، مقترحا خريطة تعيد النظر “في الطريقة التي نسكن بها العالم” لـ”بناء مجتمع للأحياء”.

جاء هذا في كتيّب “كيف نسكن العالَم: رسالة في سياسة العلاقات”، الصادر باللغة العربية عن “منشورات كولت”، وهو من كتابات الباحث السنغالي فالوين صار، الأستاذ بجامعة ديوك الأمريكية، وترجمه وقدمه الباحث والناقد المغربي خالد اليملاحي، الأستاذ في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.

العمل الذي يدعو إليه فالوين صال يقصد “تحقيق نضج نفسي يمكننا من أن نسكن العالم بطريقة بنّاءة ومثمرة”، عن طريق “تجديد تصوراتنا للعلاقة التي ننشئها مع الكائنات والأشياء التي تحيط بنا؛ بمعنى معايشة الأحياء مع احترام دوراتها وأنماطها واعتبار الطبيعة لا كمورد نستغله بل كفضاء يؤوينا ويهبنا الحياة”.

ومن بين ما يرصده الكتاب كون “عملية إضفاء الطابع الإنساني على حياتنا تظل غير مكتملة”، قبل أن يتشبث بالحل الكامن في الخيال وبناء المخيال، قائلا إن “الخيال وظيفة رئيسية في النفسية البشرية؛ إذ يتعلق بقدرة المجموعة أو الفرد على تكوين رؤية عن العالم (…) فالثقافات الإنسانية تنشئ لغات رمزية تمكن من إرساء المعنى في شبكة من الصور. وهكذا، تبني المجموعات الإنسانية مُخَيّلات خاصة بها”.

إذن، مع كون “تمثيل العالَم مسألة حيوية”، يكفي بالنسبة لفالوين صار “أن نغير صورة العالَم لكي يتغير”، وزاد شارحا: “يمكن للثقافة، بحكمها فضاء للخطاب والتمثل، أن تلعب دورا هاما في تجديد أنماط تصورنا للعالَم”، ثم تابَع: “لن يحدث تغيير حقيقي إلا إذا كان نابعا من البنيات النفسية للمجتمع الإنساني (…) إن الإقامة في عالم جديد (أو الإقامة بشكل مختلف في عالمنا هذا) تقتضي التجرد من العالَم القديم والانسلاخ من جلده المترهل، والأهم من ذلك إحداث ثورة ثقافية تؤدي إلى تجديد البنيات النفسية للمجتمع الإنساني”.

ومع تأكيده على أن “تحديد الاختلاف هو في الوقت ذاته اعتراف بالآخر”؛ فـ”قد تكون الحدود مدى (طبيعيا أو ذا طابع قانوني – إداري) لكنها أيضا فضاء للاتصال والاعتراف المتبادل”، إلا أنه ينبه إلى كون عيشنا في العالَم اليوم “غير متساو، تمييزي، منقطع ومجزأ، في حين ينبغي علينا أن نسكنه على نحو كامل لأنه ملكنا (بشكل لا يقبل التقسيم)؛ فانتماؤنا إليه أساسي وبيولوجي وأنطولوجي”.

ويسترسل الكاتب شارحا بأنه بدل الحدود، الأماكن “التي نعبرها لنتذوق ثقافة الآخر”، الحدودُ اليوم بالنسبة لغيرِ سكان أوروبا وأمريكا “جدران مانعة ومناطق فرز وتصفية (…) والفئة الوحيدة التي يسمح لها بالعبور هي تلك التي يفترض أنها ستنضم إلى القطيع المنفرد بمراعي الأرض الخضراء”.

ويرى صار أن “جعل العالم أرض وفضاء تنقل النساء والرجال هو اختيار سياسي بإمكاننا اتخاذه”؛ فـ”الإقامة في العالم تعني الإقامة بشكل كامل في جغرافياته، ومن ثمة القدرة على التنقل فيه بحرية”، وحرية تنقل الأفراد “إذا ما توافقنا عليها، لن تطرح المشاكل التي يتخيلها المرء”، بشرط “وضع الحوافز المناسبة حتى تتمكن المناطق ذات الكثافة البشرية المنخفضة من جلب الساكنة بحكم أنها ستوفر شروط العيش اللائق والكريم”، وهو ما يراه “واجبا أخلاقيا أساسيا في زمننا هذا، لأن اللامساواة والفوارق الاقتصادية والاجتماعية تأتي جراء نظام إنتاج وتوزيع للثروات مهيكل بشكل يفيد البعض على حساب الأغلبية”، ما يتطلب كـ”ضرورة أخلاقية” تفكيك النظام الحالي و”تقطيع أوصاله وإعادة بنائه على أسس أكثر عدالة”.

ويقترح الباحث في هذا الإطار “إنشاء مواطنة عالمية تعترف بالحقوق الأساسية للأفراد، تنضاف إلى مواطناتهم الخاصة”؛ لأن “البشرية واحدة لكن متعددة”، و”الإقامة في العالم تعني تصور انتمائنا إلى فضاء أوسع من مجموعتنا العرقية أو وطننا أو القارة التي ازددنا فيها أو من نشاركه لون العين أو مستوى الثروة أو الفئة الثقافية الأصلية التي ننحدر منها”.

وتبرز رسالة فالوين صار الغنى الممكن لهذا التوجه الذي يسقط الاستعداء وينتصر للمشترك الإنساني ووحدة العالم كمكان للعيش: “الإقامة في العالم تعني الإقامة الكاملة في قصص وثقافات البشرية، أي تبنّي أوجهها المتعددة وإرث مكامن المعنى النابعة من ثقافاتها المتنوعة. الإقامة في العالم تعني ألا نكون من ثقافة معينة، بل أن ننطلق من تلك الثقافة لنسكن التخيلات المتعددة والغنية والخصبة للغات العالم وأساطيرها، والأشكال المتعددة لعمليات بناء المعنى التي تتيحها هذه التخيلات”.

ويجدد الكاتب التأكيد على أنه “من الطبيعي أن نربط هويتنا بفضاء ما، أن نستغل موارده للعيش، أن نحدد فيه محيطا للحياة، وأن نطور فيه إحساسا بالانتماء”، لكنه يستدرك قائلا: “المِلكية المطلقة لها منطق آخر ينبغي تقييده من خلال تطوير وتوسيع مفاهيم الملكية المشتركة والتبادل المشترك، ما يؤدي بنا إلى إعادة التفكير في مبدأ المِلكية”.

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، يسجل الباحث الحاجة إلى الاشتغال على اللغة “ووضع حد لحالات الاستحواذ على الفضاءات والأماكن والإرث المشترك التي تحدثها اللغة اليومية (بلدي/بلدنا، أراضينا، أنهارنا…)”، عبر “إنشاء لغة ولسان لعالمنا المشترك، وذلك من أجل التحرر من الصيغة المجزأة التي نعيشها؛ فالأمر يتعلق بإيجاد أسلوب لتعيين الأشياء يمكّننا بالفعل من تكوين عالم مشترك”.

ويدافع فالوين صار عن أن الشعور بأن “كل الفضاءات ستصبح ملكنا” سيجعلنا “نميل إلى جعلها صالحة للعيش”؛ “وبذلك نكون قد تحررنا من منطق الفضاء المحصور”.

ويستحضر الباحث وجود “عدد من المؤسسات التي تتجاوز الحدود الوطنية وتسعى إلى ضمان السلم، والأمن البشري، والعدالة في العالم، كمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة والمحاكم الدولية” إلا أنها “رغم قطعها أشواطا هامة مازالت تفتقر إلى تلك القوة الأخلاقية، والصرامة الأساسية التي لا تقبل التمييز”، التي من المفروض أن تتحلى بها إزاء أي انتهاك للكرامة البشرية”، و”مازالت تؤثر عليها بشكل مفرط الاعتبارات الجغرافية السياسية للأمم المهيمنة التي تظل بدورها سجينة قصر نظر نزعاتها القومية الصغيرة أو رغبتها في السلطة”، كما يستحضر ما يؤثر على العلاقات الدولية من تصورات تضفي المشروعية على الوضع القائم بالتنظير لدولة “لا أخلاق لها ولا صداقات”.

لكن، من بين ما يساعد التوجه نحول “عالَم واحد” فعلي، وفق رصد الكاتب، وصول الأحداث التي تجري في كل مكان فورا؛ فـ”نجد أنفسنا في المكان بفضل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي”، ولو أننا “مازلنا نعيش في عالم لا تثير فيه الفئات البشرية الدنيا نفس القدرة على الاستنكار والتعبئة عندما تكون مهددة في سلامتها الجسدية والمعنوية، رغم يقظة الضمائر الواعية”.

ولا ينفي صار صفة المثالية عن “الحلم بفضاء دون نزاعات”، إلا أنه يتشبث بمستقبل أفضل ممكن للإنسان والعالم الذي يعيش فيه.

ويقدم الكاتب مثالا بمساره: “ولدت في نيوديور، وهي جزيرة صغيرة في دلتا “سلوم” في السنغال، قبالة ساحل غامبيا. عالمي الأصلي هو تلك القطعة من الأرض المحاطة بالمياه، إلى جانب اللغة “السيرير” والثقافة “النيومنكا” والصيد والفلاحة كسبل لعيش أجدادي. مكنني السفر الجسدي أولا ثم الذهني والمعنوي عبر الكتب من توسيع هذا العالم وفتحه على فضاء التعددية. هكذا نما تدريجيا إحساسي بالانتماء وتجاوز حدود وطني الأصلي والقارة التي تؤويه والثقافات التي شهدت ولادته”.

ويبشر فالوين صار في الصفحات الأخيرة من رسالته بكون “الإقامة في العالم برحابته تقتضي وضع كل الوجوه، منذ نعومة الأظافر، أمام المرآة الواسعة التي تعكس شساعة عالمنا هذا. فالأدب والتاريخ العالَمي والجغرافيا والموسيقى والأساطير ولغة الآخرين والروايات الشفوية كلها وسائل مثلى لوضع العالم تحت تصرف الجميع. بإمكاننا أن نفكر، منذ المدرسة الابتدائية، في إدماج نسبة معينة من هذه “الإنسانيات العالمية” في الدروس بغرض إنشاء ونشر تصور تعددي (للعالَم)، وبالتالي زرع بذور إحساس بالانتماء يتسع للمجتمعات الحية وغير الحية على حد سواء”.

ويُحمّل الكاتب قارئه مسؤولية طرح سؤالين على نفسه والإجابة عليهما: أيُّ عالَم نُشيّدُ بعمَلنا؟ وهل تعزز خطواتي ظروف اللامساواة والتسلط والخراب أم إنها تجعل هذا العالَم أكثر إنتاجية وانفتاحا وحيوية؟.

ثم يجمل صار قائلا: “الإقامة في العالَم تعني مغادرة مكان صحيحٌ أنه مكان الولادة والنشأة، لكننا نتعلم أن ننفصل عنه لربطه بأماكن أخرى؛ نتعلم أن نترك موقعنا لنسكن فضاء أوسع. عندما أعود إلى جزيرتي وغبار العالَم يتلألأ في حذائي أشعر بأنني في منزلي كما هو الحال في أي مكان آخر من هذا الفضاء اللامتناهي”.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى