
المعزوز يرد على بيان تضامن الفيلسوف هابرماس مع الهمجية الإسرائيلية
معالم واضحة لمفاصلة فكرية مع ما نوقش في وقت سابق من موقع التلقّي السلبي لأفكار ومواقف بعض المفكرين الغربيين، في ضوء “معركة طوفان الأقصى” والقصف الإسرائيلي المتواصل منذ شهر على غزة في فلسطين المحتلة، وما نتج عن ذلك من مواقف منحازة لمثقّفين غربيين، تعتبر دعوات إيقاف الإبادة الجماعية وإسقاط الفصل العنصري ومقاومة الاحتلال معاداة لليهودية.
المفكر المغربي محمد المعزوز توقّف عند بيان شارك فيه اسم بارزٌ في المشهد الفلسفي هو الألماني يورغن هابرماس، قائلا إنه “موقف موصول بتمثّل أغلبية المفكّرين الغربيين للعرب كقوم وللإسلام كدين ولفلسطين كسياسة، تأكيدا منهم على صيغة التّعارض والتّمايز الاستعلائي الذّي يجعل الغرب دائما هو الأقوى وموئلا مطلقا للعقلانية. كما أنّه موقف مستمد من نزعة استشراقية يجعل من موضوع العرب والشّرق مادة معرفية لدعم التحيز الإيديولوجي والسياسي تبريرا لكل مواقف الغرب وقراراته ضدّ العرب”.
وإلى جانب عدد من مفكري المنطقة، يقول المعزوز: “الوقت قد حان لخلق مسافة نقدية مع فلاسفة الغرب بالاجتهاد في خلق منظومة فكرية وفلسفية عربية مضادة لشناعة تبرير همجية إسرائيل من داخل التداول الفلسفي الغربي”، مضيفا أن “وزن المعرفة بميزان المعرفة فقط، وإهمال وزنها بميزان السياسة والإيديولوجيا، كما فعلنا في جامعاتنا العربية، خطأ تاريخي ومعرفي قد تمّ ارتكابه ولم نجن معه إلا أنّنا كنّا طلابا نجباء نرّدد بزهو ما تعلّمناه منهم في الفلسفة والعلوم الإنسانية؛ ونسينا أن المعرفة إذا لم تكن إنسانية تنتصر للقيم الثابتة للبشرية، تبقى مجرّد لغو وهذيان”.
#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} هذا نص مقال محمد المعزوز “في الردّ على بيان مبادئ التضامن للفيلسوف هابرماس”:
يحتّم علينا الموقف الأخير الذّي عبّر عنه يورغن هابرماس، مسنودا براينر فورست وكلاوس غونتر ونيكول ديتلهوف، بخصوص الحرب على غزّة، مراجعة علاقتنا الفلسفية والإيديولوجية بهؤلاء الفلاسفة ومن سبقهم من أساتذتهم الذّين انتصروا إلى إسرائيل مثل جون بول سارتر وليفيناس وغيرهما.
إنّ الموقف الذّي عبّر عنه هابرماس وأتباعه في بيان تضامني مع إسرائيل عنوانه” مبادئ التضامن: موقف”، وقد ترجمه إلى العربية مشكورا الأستاذ محمد الأشهب، موقف موصول بتمثّل أغلبية المفكّرين الغربيين للعرب كقوم وللإسلام كدين ولفلسطين كسياسة، تأكيدا منهم على صيغة التّعارض والتّمايز الاستعلائي الذّي يجعل الغرب دائما هو الأقوى وموئلا مطلقا للعقلانية. كما أنّه موقف مستمد من نزعة استشراقية يجعل من موضوع العرب والشّرق مادة معرفية لدعم التحيز الإيديولوجي والسياسي تبريرا لكل مواقف الغرب وقراراته ضدّ العرب.
وقبل أن ندخل في حوار مع بيان هابرماس، لا بد من التّأكيد على أنّ “طوفان الأقصى” بكل تبعاته وما ستؤول إليه غزّة، قد أكمل حلقة اعتبار القضية الفلسطينية، اليوم، قضيّة فكرية معقّدة أكثر منها سياسية؛ لأنّ المسألة لم تعد مسألة احتلال أرض فقط، ولا مسألة سياسية تتعلّق بالمصلحة الضيّقة لإسرائيل وأمريكا فقط، وإنّما هي سرديّة إنسان مضّطهد منذ أربعينيات القرن الماضي أراد لها الغرب أن تتوقّف عبر “احتفالية” الإبادة الجماعية يشهد عليها عالم فقد كلّ شيء إلاّ جُبنه باسم المصلحة. لقد افتتحت هذه “الاحتفالية” طقوسا لإبادة جوهر الثوابت الأخلاقية للوجود الإنساني، فلم يعد مسعى إبادة الأطفال والنساء إبادة للهويّة أو للجنسية، وإنمّا هو إبادة لماهية موصولة بالجنس البشري، رُتْبَتها أكثر من العنف باعتبار العنف ينتهي دائما إلى لحظة خمود بأثر كابح من كوابح ثابت أخلاقي ملزم.
إنّها قضية معرفية معقّدة تشهد تجاذبا مريرا بين السعي إلى الحقيقة وبين الطّمس وتَسْييِد الكذب. لقد تقاطبت فيها السيّاسة والفلسفة والإيديولوجيا والتّكنولوجيا والاقتصاد وعلوم الحرب والإعلام، ممّا جعلها أصل القضايا الكبرى التّي باتت تشغل العالم مستدعية تفكيرا جديدا في مسألة القوّة المنفردة الممركزة بين كفّتي أمريكا. من هنا خلق “طوفان الأقصى” منعطفا حاسما في تاريخ العلاقة بين الغرب وفلسطين ليُماط اللّثام عن الجزء الكبير من الحقيقة وتسقط سردية حقوق الإنسان والقوانين الدّولية والمواثيق الإنسانية، ممّا قد يرجّح فرضية بروز مقاومة مختلفة لا وطن لها ضدّ هذه القوّة الممركزة التّي استعلت عن أبسط أخلاقيات البشر. والمؤكّد أن هذه المقاومة ستكون شاملة ومنفتحة على عنف مضاد غير مسبوق، تنهار فيه معاني الدّولة وقيم السّلم والعيش معا.
موقف هابرماس وبيان التّضامن
يندرج موقف هابرماس، وراينر فورست، وكلاوس غونتر، ونيكول ديتلهوف وهم يدبّجون بيانا تضامنيا يتظاهرون فيه بالانتصار إلى مبادئ مخصوصة في التضامن، في ما أسمّيه “مُضمر التّجنيد العرقي” وراء اليهودية. يقول البيان “هناك مبادئ تشكل أساسا لتضامن مُفكّر فيه ومتعقّل مع إسرائيل واليهود واليهوديات”، معتبرا في الآن عينه أن حماس قد ارتكبت مجزرة بِنِيّة “إبادة الحياة اليهودية بشكل عام”.
منذ بداية هذا البيان الذي جاء بعد أكثر من شهر عن مجازر إسرائيل، تهافت هابرماس إلى إصدار موقف متحيّز فيه حكم قاطع بإدانة حماس. وكأنّه ليس بالفيلسوف الذّي ملأ الدّنيا بهتاف وظيفة الفلسفة في خلق حوار متكافئ وأنّ الغاية القصوى للفعل التواصلي هي حصول التّفاهم بين الأطراف المتحاورة بشروط حدّد أهمّها في عدم تأثير طرف على الآخر. لم يستطع هابرماس أن يخلق مسافة بين اليهودية والفلسفة والسياسة، على الرّغم من القوّة الفلسفية التّي أبداها وهو يؤسّس لمشروعه الذي لا يجادل اثنان في متانته وأهميته الفكرية. ففي كتابه “الفلسفة الألمانية والتّصوف اليهودي” يحول الدّفاع عن شرعية الطليعة اليهودية في تصدّرها الفكري للمجتمع الألماني بناء، حسب دعواه، على مرتكز فكرة الخلاص الصّوفي الكابالي الذّي اعتبرها أساس نظرية المعرفة والفلسفة الوجودية. يظهر في هذا الاستنتاج، الذي لم يناقش بما فيه الكفاية، استفزازا ثقافيا وفكريا للإنتاجات الفلسفية المحلّية غير اليهودية، والتّي تمكّنت من الانتشار بقوّة وسط الجامعات الغربية والعربية وفي إسرائيل، فيما اعتبرت اجتهادات الفكر العربي الإسلامي في جعل التصوّف إمكانا للإسهام في حلّ الاستشكالات الفكرية المعاصرة، أصولية مشينة وتخلّفا لا يمتّ للحداثة بأيّ صلة. وهي الأطروحة نفسها التي دافع عنها إيمانويل لفيناس ذو الأصول اليهودية، الذي سعى إلى بناء منظومة أخلاقية بديلة افترض فيها تجاوزها للوغوس الإغريقي وجعل من شخصية اليهودي أفقا مركزيا التفكير، مستندا في ذلك على نصوص التوراة التقليدية بكثير من الموثوقية. لقد جعل ليفيناس من منظومته الأخلاقية أداة سياسية بخلفية فلسفية للاستثمار في الأحداث السياسية، كمعادته لفلسطين وإقصائه المعتمد للتراث الثقافي العربي الإسلامي بتنصيصه على أنّ تاريخ البشريّة كلّه يتكوّن من التوراة والإغريق. وكلّ ما عدا ذلك فهو تابع. إنّه بذلك يسقط عن أطروحته دعوى فصل الأخلاق عن السياسة ولا يجعل من الآخر كما يدّعي مادة للمعرفة وإنّما موضوعا سياسيا تكون فيه الشّخصية اليهودية كائنا مطلقا يهيمن على المشهد الأخلاقي في الفكر الأوروبي.
في هذا السّياق، يندرج بيان هابرماس، الذي يعبّر بدوره عن جوهر “المسألة اليهودية” كفلسفة نشأت في الغرب وترعرعت فيه وأصبح لها فلاسفة كبار ودعاة يروّجون بشتّى الطرق أن اليهود مهدّدون بالعنف وبخطر الإبادة الجماعية على يد الفلسطينيين، وهذا ما ردّده البيان في مطلع الفقرة الثانية المترجمة، ليتمسك لاحقا بأن كل انتصار أو تضامن مع الفلسطينيين هو من قبيل معاداة السّامية.
ما ينبغي التأكيد عليه أنّ المسألة اليهودية والانحياز إلى إسرائيل، منظومة فكرية يضطلع بتقويتها فلاسفة الغرب من منظور عرقي وديني، ولا يحرجهم في مختلف المناسبات التعبير عن إسرائيليتهم كما هو حال هربرماس الآن وأتباعه، وكما هو حال جان بول سارتر وغيره في محطّات عديدة من الاعتداءات الهمجية على الفلسطينيين.
أمام هذا المعطى الذّي لم يناقش بجدّية من طرف المثقّفين والمفكّرين العرب، أظنّ أن الوقت قد حان لخلق مسافة نقدية مع فلاسفة الغرب بالاجتهاد في خلق منظومة فكرية وفلسفية عربية مضادة لشناعة تبرير همجية إسرائيل من داخل التداول الفلسفي الغربي. وأن وزن المعرفة بميزان المعرفة فقط، وإهمال وزنها بميزان السياسة والإيديولوجيا، كما فعلنا في جامعاتنا العربية، خطأ تاريخي ومعرفي قد تمّ ارتكابه ولم نجن معه إلا أنّنا كنّا طلابا نجباء نرّدد بزهو ما تعلّمناه منهم في الفلسفة والعلوم الإنسانية؛ ونسينا أن المعرفة إذا لم تكن إنسانية تنتصر إلى القيم الثابتة للبشرية، تبقى مجرّد لغو وهذيان.