
أكاديمية المملكة تستشرف “ما بعد الزلزال”.. تقاعد علماء الجيوفيزياء تحدّ مستقبلي
تفكير جماعي في “زلزال الحوز”، وسبل صيانة كرامة المتضررين، والاستعداد الأمثل للكوارث الطبيعية، حضر السبت بأكاديمية المملكة المغربية بالرباط، التي دعت أكاديميين ومهندسين وعلماء مغاربة وأجانب إلى الاستفادة من الخبرات من أجل “رسم معالم إمكانات العمل في المستقبل، لمواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية”.
بعنوان “التفكير في آفاق الكرامة ما بعد الزلزال” حضرت بالأكاديمية نقاشات متعددة متعلقة بإعادة الإعمار والترميم والإعداد، في مجالات المخاطر وسلامة السكان، وطبيعة الهندسة التي تحمي الإنسان في ظل الكوارث الطبيعية، وترميم وإعادة بناء التراث المتضرر.
وقال عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن التاريخ يحدثنا عن زلزال لشبونة الذي وقع سنة 1755، وكان كارثة طبيعية مروعة، و”زلزالا فكريا أعاد طرح أسئلة فكرية وأدبية شغلت بال الفلاسفة والأدباء، أثمرت أعمالا منها قصيدة فولتير الشهيرة (قصيدة عن كارثة لشبونة أو فحص المسلَّمَة القائلة إن كل شيء على ما يرام)، ثم رسالة جان جاك روسو عن موقفه من هذا الزلزال، وهي اليوم وثيقة مهمة لفهم مصير الإنسان”.
#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;}
وقبل زلزال لشبونة “لابن سينا كتاب مرجعي هو: (المعادن والآثار العُلوية) من قسم (الطبيعيات) ضمن موسوعته العلمية والفلسفية (الشفاء)، ضمّنه آراء تلقَّن وعبرا جديرة بالتأمل حول الزلازل ووقعِها على البشر والحجر. كما لا تخلو كتب تاريخ الإسلام من وصف للزلازل، نجدها في تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الجوزي، وابن كثير، وابن الأثير، ولدى الناصري في (الاستقصا)”، يورد لحجمري.
ومع حديث أمين سر الأكاديمية عن عمق مأساة “زلزال الحوز” التي أودت بحياة آلاف القتلى، سجل أن الكوارث تُعتبَر دوما “تحديا فكريا بالنسبة للفلاسفة والأدباء والعلماء، لفهم صلة الإنسان بالطبيعة؛ لأن كل تفكير في الكارثة، مهما كان نوعها، يمكننا من إعادة بناء المجتمع والعلاقات بما يضمن التحلي بحكمة فلسفة بيئية لها منطقها الأخلاقي الذي يُعمّق النظر في الظواهر الطبيعية، برؤية فلسفية فرضَها تنامي الأزمات الطبيعية والبيئية للقرنين العشرين والحادي والعشرين؛ في سبيل حماية الإنسان من كل المخاوف التي تهدد وجوده، وابتكار أخلاقيات جديدة توفر له العيش الآمن الكريم”.
وثمنت أكاديمية المملكة “المبادرات التضامنية التي عبَّر عنها المغاربة بكل تلقائية وتضحية وسخاء لدعم البرنامج الاستعجالي لإعادة إيواء المتضررين من هذه الفاجعة المروّعة”، مضيفة أنها “من أجل مواصلة روح التعبئة العامة التي تعرفها بلادنا” تحت قيادة الملك محمد السادس، فإنها تنظم هذا اللقاء العلمي الذي دعت له “خيرة العلماء والباحثين لتبادل الرأي والتفكير في آفاق الكرامة بعد الزلزال”.
وإعادة البناء واستعادة الكرامة، وفق لحجمري، لا تتحقق فقط من خلال توفير الاستثمارات المادية اللازمة لإعادة الإعمار، بل “من خلال التفكّر أيضا في مجمل القضايا التي تقتضيها مرحلة ما بعد الكارثة، وفي كل ما له صلة بعناصر الحياة، والمعادن، والنباتات، والإنسان”.
وزاد أمين سر الأكاديمية: “تكشف الزلازل عن نقاط ضعف عميقة في المجتمعات البشرية، وهي تشهد اليوم تحولا مخيفا نتيجة التغيرات المناخية المتسارعة، بحيث تغدو الكوارث الطبيعية كوارث إنسانية مفزعة. وقد كان زلزال الحوز، وفق علماء الجيوفيزياء وحركات الزلازل وعلوم الأرض أحد أعنف الزلازل التي عرفتها البلاد، علما أن العديد من مدنها عرفت الزلازل في السنوات والقرون الماضية، مثل أكادير، وفاس، ومراكش، ومكناس، ومليلية، وطنجة؛ لأن شمال المغرب يقع على الحدود بين الصفيحة الإفريقية والصفيحة الأوراسيّة، وهو الصدع التحويلي بين جزر الأزور وجبل طارق. ولذلك تتركز الزلازل بالمغرب في المنطقة الشمالية، أما في جنوب الريف فالنشاط الزلزالي متفرّق ومنتشر عبر الأطلس المتوسط والكبير والصغير”.
عمر الفاسي الفهري، أمين السر الدائم لأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات، قال من جهته إن “لهذا الملتقى راهنية كبيرة لفهم ما حدث في إطار جهود توفير مختلف الوسائل، وإعادة الإعمار على أساس احترام الكرامة الإنسانية، علما أن المغاربة قدموا في تعاملهم مع المناطق المتضررة من زلزال الحوز درسا في الكرامة، والتضامن، والصمود، والكرم، وهو ما رأيناه في تقديم مواطنين الشاي لمَن قدِموا لمساعدتهم ولو أن الزلال هدم مساكنهم”.
“التضامن والانسجام المجتمعي” يُعبران وفق الفاسي الفهري عن “القوة والخيرية المغربية”، تحت القيادة الملكية، التي تستمر في عمل “البناء وإعادة البناء والتنمية”.
الزلزال يذكّر أيضا بـ”إلى أي حد ينبغي التوفر على ما يكفي من الكفاءات الإنسانية في الجيولوجيا وعلم الزلازل والجيوفيزياء؛ فمنطقة الحوز لم تكن تُعتَبر منطقة ذات خطر زلزاليّ كبير (…) واليوم عدد كبير من العلماء في طريقهم إلى التقاعد”، يورد المتحدث ذاته، وتابع: “التوقع المضبوط للزلزال مازال تحديا، لكن هناك توقعات تمكن من الاستعداد للمآسي القادمة”، قبل أن ينبه إلى ضرورة “تعليم الجمهور حول موضوع الكوارث، والضوابط الواجبِ اتِّخاذُها قبل وخلال وبعد الكوارث، لأن هذا سيقوي طبيعة الاستجابة”، حتى “نتجاوز، إن أمكن، عيش مأساة مثل هذه مرة أخرى”.
جميلة العلمي، مديرة المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، تحدثت بدورها عما يخلقه تقاعد علماء الجيوفيزياء من “مشكل”؛ “لأننا نحتاج الخلف في هذا المجال”، كما تحدثت عن الحاجة إلى إطلاق برنامج بحث غيرِ مسبوق حول الزلازل.
مديرة المؤسسة التي تضم المركز الوطني للجيوفيزياء المراقب للهزات الأرضية أوردت أن “البحث العلمي عمود أساسي للسياسة الوطنية في تدبير الزلازل بالمغرب”، وقدمت إحصائيات الأبحاث العلمية المنشورة في السنوات الخمس الأخيرة (2018-2023) حول المجال، قائلة إنها 614 بحثا في علم دراسة طبقات الأرض، و122 بحثا في فيزياء الأرض، و232 بحثا في الفيزياء الفلكية، و37 بحثا في علم الزلازل.
ومع تقديمها تصنيف الجامعات المغربية بناء على المنشورات العلمية في التخصصات المذكورة، ذكرت المتدخلة أن الأبحاث العلمية في هذا المجال لا تُجرى في الجامعة فقط، بل تجريها أيضا وزارة الداخلية في إطار الإستراتيجية الوطنية لتدبير مخاطر الكوارث الطبيعية.
ومع ذكر المتحدثة أن الأبحاث العلمية بالمغرب مستمرة في هذه المجالات، إلا أنها نبهت إلى ضعف طلبات المشاريع المهتمة بالزلازل، ما ينعكس على قيمة الميزانيات البحثية المخصصة لها مقارنة بمواضيع علمية أخرى؛ ثم سلطت الضوء على اهتمامات علمية رائدة بدأت في الجامعة المغربية، مثل جامعة محمد الخامس التي انطلق اهتمامها باستعمال الذكاء الاصطناعي في مجال الزلازل منذ سنة 2019.
وقدمت مداخلات علمية أخرى نماذج عملية لنوع البناء المضاد للزلازل الذي ينبغي الاستثمار فيه خلال إعادة إعمار المناطق المتضررة من “زلزال الحوز”، باستحضار تجارب دولية في الإعمار، من بينها التجربة اليابانية في حماية السكان والبنيات التحتية، وبذكر تكنولوجيات بناء بديلة، وبيان أن مواد البناء، محلية أو غير محلية، ليست هي أساس المشكلِ، بل طبيعةُ البناء، وهل بُني ليُسند وزنه فقط أم بُني باستحضار ما ينبغي أن يواجهه من كوارث طبيعية.