“الرحلة المغربية”.. حسونة المصباحي يتعقب أثر الساسة والمبدعين والفلاسفة

قال الكاتب أحمد بن شريف إن العمل الجديد للروائي والكاتب التونسي حسونة المصباحي الموسوم بـ”الرحلة المغربية”، الذي يضم بين دفتيه 11 عنوانا، تنقّل عبره الكاتب بين مدن مغربية وعواصم عالمية عديدة، مستقصيا ومسجلا في الآن نفسه أهم الأحداث السياسية والاجتماعية، ولا سيما تلكم التي طبعت تاريخ المغرب الحديث منه والقديم.

وأشار أحمد بن شريف، في مقال له بعنوان “التضمين ومحاولة استعادة الزمن التاريخي في الرحلة المغربية”، إلى أن “رحلة المصباحي لا تنتهي إلا لتبدأ بقصة جديدة”، حيث يعمد الكاتب في تسجيل وقائع مروياته إلى معجم حسي، تغلب عليه السمات التشخيصية التي تعنى بحياة ونشاط هذه الشخصية أو تلك. كما أن “الرحلة المغربية” رحلة متعددة؛ مفتوحة على الأمكنة والأزمنة والمنابت الفكرية والثقافية والحضارية.

هذا نص المقال:

قراءة العمل الجديد للروائي والكاتب التونسي حسونة المصباحي الموسوم بـ”الرحلة المغربية”، الصادر عن دار النشر باب الحكمة بتطوان، تتطلب التسلح بالرؤية النقدية الفاحصة، التي من شأنها مساءلة “الرحلة المغربية”، التي شغل نصها 318 صفحة من الحجم المتوسط. يندغم في العمل المرشح للقراءة السيري التخييلي بالتاريخي، مع محاولة حثيثة لإخضاع ما كان يبدو واقعيا – على مستوى بناء اللحظة التاريخية – لسلطة متخيل (له استقلاليته النسبية )؛ ينظر إلى العالم من خلال شرفة الوعي بالزمن غير المادي، الذي يعيد بناء الأحداث لغويا، مما يعني أن كثيرا من العناصر الحسية ضاعت بين تلافيف التعبيرات الاستعارية والرمزية. مادة سردية المصباحي الأساس اللغة والأساليب التعبيرية المختلفة التي سخرها، الكاتب المفترض، سعيا منه إلى ترسيخ سلطة النص المنتَج (بفتح التاء)، وفق جدلية المعنى والمبنى أو الشكل والمضمون، اللذين يفضيان في نهاية المطاف إلى عملية هيكلة الخطاب المؤشر على المحتوى المبثوثة وقائعه في النص حتى لو كانت طبيعة لغته تعيينية. عمد الكاتب، ومن خلال سرديته المؤطرة للأحداث والوقائع الثقافية والفكرية والسياسية التي يحبل بها النص الرحلي وفي مختلف المجالات الجغرافية البشرية منها والطبيعية، إلى توسيع دائرة الأسئلة المعرية أفقيا وعموديا؛ فقد انفتح الكاتب في “رحلته” على رؤى ثقافية وفلسفية متنوعة، مغاربية وعربية وعالمية، تمثل مشارب فكرية وحساسيات متباينة. نحن أمام تجربة يتقاطع عندها الذاتي بالموضوعي في توليفة سردية؛ تنفتح على مظان ومصادر تاريخية غنية، كما تنفتح على تجارب شخصيات وأعلام، تنتمي إلى المختلِف الكوني (بكسر اللام)، شكلت بحق روافد، غذت سرود الكاتب المصباحي الذي ضمنها في عمله باعتبارها أصواتا ومعانٍ ودلالات، يسعى الكاتب من خلالها إلى تشييد لحظة وعي محايثة لما هو تاريخي.

ضمت “الرحلة المغربية” بين دفتيها أحد عشر عنوانا، تنقل عبرها الكاتب المصباحي بين مدن مغربية وعواصم عالمية عديدة، مستقصيا ومسجلا في الآن نفسه أهم الأحداث السياسية والاجتماعية، ولا سيما تلكم التي طبعت تاريخ المغرب الحديث منه والقديم. كما استوقفته المدن التي “تسكع” في دروبها وأزقتها وحاناتها بسحر مباهج الحياة فيها وفرادة عمرانها. توزعت عناوين الكتاب – في سردها للأحداث – بين ما هو تاريخي وسياسي وفكري وأدبي، مبرزة في العديد من فقراتها اللحظات القوية التي أسرته، بل حملته على تغيير مواقفه من الأحداث، ولا سيما تلكم المتعلقة بالتجربة المغربية.

بدأت معالم الرحلة من تونس، موطن الكاتب، لتنطلق في اتجاه باريس ومدريد والرباط وفرانكفورت وسواها من المدن والحواضر الأخرى. ولعل ما ورد على غلاف ظهر المؤلف ما يفسر المنحى الرحلي اللافت للانتباه، حيث نجد المصباحي يعلن منذ البداية عن شغفه بالضرب في الأرض والتنقل بين المطارات والموانئ والمحطات الطرقية، غير عابئ بثقل الرحلات الطويلة وأعبائها. في الرحلة مغامرة واكتشاف وقراءة مستمرة للتوقعات لما قد يحمله زمن الأسفار من مفاجآت وأهوال هنا أو هناك. يقول الكاتب: “بفضل ربيع الديمقراطية القصير الذي عاشته تونس بعد الهجوم المسلح على قفصة، حصلت على جواز سفري المحجوز منذ عودتي من رحلتي المشرقية في أول عام 1974، فسافرت إلى باريس في شهر مايو – أيار 1981 لأعيش هناك أسابيع رائعة، أزاحت عني وحشة سنوات السبعينيات الغبراء، ومن باريس توجهت إلى مدريد… وفي أوائل شهر حزيران – يونيو وصلت إلى الدار البيضاء”….

رحلة المصباحي لا تنتهي إلا لتبدأ بقصة جديدة، فالذهاب إلى أقصى نقطة محتملة في مسافة “الألف ميل” من المواجع التي يشغلها حيز العمل، يرشح القارئ ليكون علامة من علامات الرحلة الموعودة وبعدا من أبعادها النصية والتسجيلية.

إن التقطيع الأفقي، الذي يباشره القارئ المفترض وهو يهم بفك شفرة “الرحلة المغربية” لمؤلفها حسونة المصباحي، يستلهم مرجعيات ثقافية فلسفية أدبية فكرية، مستحضرا في الآن نفسه أطيافا أيديولوجية وحتى سياسية؛ نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، ممثليها وهم ينتمون بالمناسبة إلى بيئات ثقافية ومنابت فكرية متباينة: عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي ومحمد خير الدين ومحمد شكري وعبد القادر الشاوي وجمال الدين بن الشيخ ويوسف بن تاشفين وبن تومرت وجورج أورويل وخوان غويتصولو وكنوت هامسون وسانت أوكزيبيري وسواهم من الأسماء التي تركت أثرا واضحا في مجرى تاريخ الفكر البشري شرقا وغربا.

تكبر مساحة التأويل لدى القارئ كلما تقدم في قراءة “الرحلة المغربية”؛ بحيث يتم تحصيل المعاني التي يولدها فعل القراءة وفق قواعد كسر أفق الانتظار.

يقول الكاتب في (ص23) : “قطعت البولفار لأصل إلى “النيجريسكو”؛ الحانة المفضلة لمحمد شكري في التسعينيات من القرن الماضي. فيها كان يلتقي زوار طنجة من الكتاب العرب والأجانب. وفيها كان يعامل من قبل صاحبها، ومن قبل النادلين مثل أمير متوج… وعلى الجدران صور له معلقة وهو في هيئات مختلفة… فهو على هيئة “ساموراي” ياباني برأس محلوق، وعينين مغوليتين، ووجه تسمه قسوة المحاربين. وهو بجانب فتاة شقراء جميلة، كانت قد فرت من بروكسيل بعد أن قرأت “الخبز الحافي” لتعيش معه أشهرا طويلة، غير عابئة برسائل عائلتها الكاثوليكية المحافظة التي كانت تهددها بالحرمان من الإرث إن هي استمرت في عصيانها وتمردها عليها؛ مفضلة العيش مع شيخ مسلم، متصاب وسكير، ومجنون”….

يعمد الكاتب المصباحي في تسجيل وقائع مروياته إلى معجم حسي؛ تغلب عليه السمات التشخيصية التي تعنى بحياة ونشاط هذه الشخصية أو تلك، مسخرا أدوات وأساليب التوصيف الغيري؛ بحيث يأخذنا معه في رحلة، تفضي بالضرورة إلى رحلة جديدة ومغامرة جديدة، وهكذا دواليك. ندلل على ما ذهبنا إليه بما ورد في (ص111)، بحيث يقول الراوي: “.. بعد جولة في قلب الرباط جلسنا في بيت الصديق خالد الحلي، الصحافي العراقي المقيم آنذاك في المغرب قبل أن يغادر إلى أستراليا… قال لي محمد خير الدين : “بدأت حياتي موظفا، ثم استقلت من الوظيفة غير آسف، وهاجرت إلى فرنسا… في كتبي سربت بعض المعلومات المتعلقة بطفولتي، والبيئة التي فيها نشأت… كما تحدثت عن أوضاع اجتماعية وسياسية… وأنت تعلم أن روايتي الأولى “أغادير” تم منعها بأمر من الجنرال الرمادي أوفقير… وهذا شرف كبير لي… وما أنا أرغب في التأكيد عليه هو أن العناصر والذكريات المتعلقة بحياتي الشخصية يمكن أن توجد في ما أبدعته في الشعر، كما في النثر… وحتى لو أراد الكاتب أن يتخفى فإنه يفشل في مسعاه… لكن على الكاتب ألا يكثر من الحديث عن نفسه لكي لا يتحول إلى مجرد مهرج ثرثار””.

هكذا يمضي نص “الرحلة المغربية” للمصباحي متعقبا أثر الكتّاب والمبدعين والفلاسفة والساسة، مغاربة وعربا وأجانب، معرجا ومتوقفا في الآن الواحد عند سير حيواتهم الحافلة بالعطاء ومنجزهم الأدبي والفكري والحضاري، مولعا بعرض سيرهم وأساليب عيشهم واحدا واحدا. نقرأ في (ص179) ما نصه: “… وكان يوسف بن تاشفين يفضل أن يستشير في إدارة شؤون دولته زوجته التي كانت زوجة ابن عمه أبي بكر عمر، وتدعى زينب النفزاوية. وكانت تلك المرأة الجميلة، والساحرة، فائقة الذكاء، مسموعة الكلمة والرأي لدى جميع المرابطين، فلا يقضون حاجة إلا بعد استشارتها. عنها تُروى قصص عجيبة… لذلك لم يكن يوسف بن تاشفين يورد لها نصيحة أو رأيا. وكان يقول لأبناء عمه إذا خلا بهم “بأنه فتح البلاد برأيها”، وإن مملكته اتسعت وتعاظمت قوتها بفضل نصائحها، وحيلها، وحسن تدبيرها، خصوصا في أوقات الشدة والعسر”.

لقد عقد الكاتب فصولا كاملة للحديث عن حاضرة مراكش، مستحضرا فن عمارتها الأندلسية البديعة وبساتينها الخلابة، فضلا عن مباهج الحياة في لياليها الساحرة. كما عرض للسلاطين ونظام حكمهم في مراكش (المغرب)، مستعرضا طرائق وصولهم إلى الحكم وبلوغهم ذروة القوة والمجد ثم ضعف شوكتهم ووهنهم وسقوطهم واندحارهم، وانتقال الملك من القبيلة المغلوبة (بلغة بن خلدون) المدحورة إلى الأخرى الغالبة الصاعدة، بقوة نظام جيشها وانتصار أيديولوجيتها، كما هو الحال مع الموحدين بزعامة بن تومرت، الذين أطاحوا بدولة المرابطين، بعد أن دب الضعف إلى جسمها وتمزقت أوصالها . تقول “الرحلة المغربية” في (ص187): “بعد أن عاين مظاهر السقوط والانهيار، التي بدأت تمزق أوصال دولة المرابطين، شرع المهدي بن تومرت في الإعداد لإسقاطها بحد السيف”.

عود إلى بدء، نسجل بأن “الرحلة المغربية” لصاحبها حسونة المصباحي رحلة متعددة؛ مفتوحة على الأمكنة والأزمنة والمنابت الفكرية والثقافية والحضارية، تسعى من خلال سرودها إلى تجميع اللحظات التاريخية ضمن توليفة، تشد انتباه القارئ إلى خطاب رحلي، يتغيى سيرة غيرية، مادتها أحداث تاريخية متنوعة ووقائع ارتبط إيقاعها بحياة وتجارب شخصيات، متباينة في نزعاتها الفكرية واختياراتها السياسية والاجتماعية.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى