“ضربة النيجر” تكرس الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في إفريقيا

ضربة تلو أخرى باتت تتلقاها فرنسا منذ جلوس الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون على كرسي الحكم في الإليزيه والذي عرفت الدولة الفرنسية في عهده “انتكاسات داخلية وخارجية”، بدءا بالاستياء الداخلي من سياسته الاقتصادية التي يترجمها استمرار تدني شعبيته أمام توالي الأزمات الاقتصادية وارتفاع مستويات التضخم؛ وصولا إلى خفوت النجم الخارجي لفرنسا في سماء القارة الإفريقية.

ضربة جاءت هذه المرة من النيجر التي أجبرت سلطاتها الجديدة فرنسا على مغادرة بلادها وإنهاء الوجود الدبلوماسي والعسكري الفرنسي على أراضيها؛ فقد أعلن الرئيس الفرنسي، مساء أمس الأحد، في مقابلة تلفزيونية، أن سفير بلاده في النيجر سيعود، خلال الساعات المقبلة، إلى فرنسا، مع مغادرة كل القوات الفرنسية لهذا البلد الإفريقي بحلول نهاية العام الجاري، بعد أكثر من شهرين من التوتر بين باريس والمجلس العسكري في النيجر التي لفت ماكرون إلى أن بلاده “أنهت تعاونها العسكري معها”.

ماكرون حاول تبرير الوجود العسكري في دول الساحل بالقول إننا “كنا في النيجر ومالي وبوركينافاسو بطلب من حكومات هذه الدول من أجل محاربة الإرهاب”، مشيرا إلى أن “عملية برخان العسكرية في الساحل كانت ناجحة؛ لأن دونها كانت معظم الدول الإفريقية ستسقط في يد الجهاديين”، على حد تعبيره.

مراكمة للفشل وتداعيات داخلية

البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في تحليل الصراع وإدارة الأزمات، قال إن “قرار ماكرون بسحب سفير بلاده وإطلاق برنامج زمني لانسحاب القوات الفرنسية من النيجر هو تحصيل حاصل ودليل على فشل السياسة الماكرونية الجديدة في إفريقيا التي تستمر في مراكمة الفشل، وهو كذلك محاولة استباقية للالتفاف على الهزيمة الفرنسية في النيجر وتأكيد على نهاية الدور الفرنسي المشبوه في منطقة الساحل والصحراء الكبرى”.

وأشار البراق إلى انكماش الدور الفرنسي في إفريقيا نتيجة مجموعة من العوامل؛ أولها “ازدواجية الخطاب الفرنسي، إذ يتبنى ماكرون خطابا رسميا يدعو إلى إعادة التوازن في العلاقات والشفافية وشراكة الكسب المشترك.. الواقع والممارسة يؤكدان استمرار الممارسات القديمة من خلال استنزاف مقدرات الشعوب الإفريقية والعمل على إجهاض كل محاولات شعوبها لتحقيق استقلال اقتصادي واضح الملامح عن السياسة النقدية الفرنسية في إفريقيا”.

في هذا الصدد، لفت المتحدث عينه إلى “تراجع الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية؛ ذلك أن نسبة التجارة الخارجية بين فرنسا وإفريقيا تراجعت بشكل ملحوظ، حيث إن مجموعة من القوى خارج أوروبا أصبح لها حضور وازن في السياسات التنموية لدول إفريقيا على غرار كل من الصين وروسيا والهند وتركيا والمغرب مقابل هذا انحدار اقتصادي فرنسي بدأت تظهر معالمه على المستوى الداخلي من خلال تدهور القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي”.

كما أن “عسكرة السياسة الفرنسية واستخدام القوة العسكرية من قِبَل فرنسا في العديد من الصراعات في إفريقيا أدى إلى تنامي الرفض لها ولطريقة عملها” أوضح البراق؛ وبالتالي فإن “فشل السياسات العسكرية الفرنسية خلقت توترا ومعاناة في العديد من الدول الإفريقية وتسببت في تدهور الأوضاع الأمنية داخلها وفتحت المجال أمام الجماعات الإرهابية لتحقيق اختراقات كبرى في العديد من دول الساحل والصحراء”.

وسجل المتحدث عينه أن تراجع دور فرنسا في إفريقيا والعالم سيتسبب في انعكاسات عديدة على مستقبل باريس، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، حيث إن “تراجع النفوذ الاقتصادي الفرنسي في إفريقيا يمكن أن سيؤثر سلبا على النمو الاقتصادي في فرنسا نفسها؛ ذلك أن المتفق عليه أن إفريقيا تشكل سوقا مهمة للمنتجات الفرنسية ومصدرا للاستثمارات الفرنسية. كما أن تراجع العلاقات التجارية والاستثمارية قد يؤدي إلى انخفاض الفرص الاقتصادية أمام الشركات الفرنسية؛ وبالتالي وتقلص القدرة التنافسية لديها”.

خضوع فرنسي ونزوات سياسية

من جهته، أورد عباس الوردي، أستاذ القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن “ماكرون اضطر إلى الخضوع إلى ضغوط السلطة العسكرية الحاكمة في النيجر وطرد السفير الفرنسي غير المرغوب فيه”، مشيرا إلى أن “التعنت الفرنسي في البقاء في النيجر لم يدم طويلا أمام إصرار الطرف النيجيري على طرد الوجود الفرنسي، خاصة أن السلطة الجديدة لديها حسابات سياسية وعسكرية لا تدخل ضمنها فرنسا”.

وأوضح المتحدث عينه أن “إعلان ماكرون السحب التدريجي للقوات الفرنسية من النيجر هو مناورة من طرفه من أجل كسب بعض الوقت ومحاولة إيجاد أرضية معينة للتفاوض مع القادة الجدد للنيجر”، مستبعدا في الوقت ذاته أن “يحدث أيّ اتفاق بين فرنسا التي تدعم الرئيس بازوم وبين السلطة العسكرية الحاكمة في هذا البلد الإفريقي”.

وشدد الأستاذ الجامعي عينه، في تصريح لجريدة Alhayat 24 الإلكترونية، على أن “كل هذه التطورات تؤكد مرة أخرى على أن الوجود الفرنسي في إفريقيا ماض إلى الزوال، وأن الأفارقة لم يعد يطيقون التعامل مع فرنسا الاستعمارية المتعالية والمغالية في العلاقات ذات التوجه الكبريائي تجاه إفريقيا”.

وأشار الوردي إلى “فشل الولاية الثانية لماكرون، هذا الرئيس الذي اندحر في الخارج كما في الداخل إثر تراجع شعبيته وتدني مستوى ثقة الناخب الفرنسي في سياساته”، متسائلا في هذا الصدد: “إذا كان المواطن الفرنسي نفسه لا يثق في قدرة رئيسه على تدبير الشأن العام فكيف لمواطني الدول الأخرى أن يثقوا في سياسات واختيارات الرجل؟”.

وخلص إلى أن “نهاية الوجود الفرنسي في النيجر سيكون له بطبيعة الحال تبعات مماثلة على مستوى مجموعة من الدول الأخرى على غرار مالي وبوركينافاسو التي طردت الجنود والشركات الفرنسية من أراضيها”، مشددا على أن “ماكرون ضرب التاريخ الفرنسي بعرض الحائط وضرب الدبلوماسية الفرنسية فقط من أجل تحقيق رغباته ونزواته السياسية المرتبطة بالردع الذي لم يعد له وجود على مستوى المنظومة الدولية في إطار النظام العالمي الجديد الذي تمثل فيه إفريقيا عملة صعبة وطوق نجاه للعديد من الدول”.

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى